الرّاية الحمراء، وعدوى الأفكار المسْمُومة
بقلم د. عمار حميد البنا
14/12/2019
المكان: دولة ساموا التي تقع في المحيط الهادئ بين هاواي ونيوزيلاندا.
الزمان: الخميس 6 ديسمبر 2019
الحدث: الشوارع مغلقة، إلّا من بعض العربات الحكومية. جميع جهات العمل الحكومية والخاصة مغلقة ما عدا الشرطة والدفاع المدني. المدارس كلها معطلة. الخروج من المنزل ممنوع منعاً باتّاً بقرارٍ حكوميّ. أبواب المنازل مغلقةٌ بإحكام على قاطنيها، وبعضها ترفع رايةً حمراء. السكون مخيمٌ، وهذا أمر غير اعتياديّ على ساموا التي كانت دائماً تنبض بالحياة. ما الخطب؟ هل هناك عصابات مسلحة تقتنص الناس في الطرقات والأماكن العامّة؟ هل هناك تسونامي، أو حرائق أو غيرها من الكوارث الطبيعية؟ كلّا! إنّها عدوى الحصبة والتي أخذت تستشري بسرعة فائقة وتقتنص أرواح العشرات، أغلبهم من الأطفال. عدوى الحصبة في القرن الحادي والعشرين؟ نعم. سنعود إلى ساموا لاحقاً ولكن بعد أن نسلط الضوء على معلومات هامّة مرتبطة بهذا الموضوع. ـ
********
داء الحصبة
كانت عدوى الحصبة تشكّل كابوساً مخيفاً يفتك بالملايين من البشر. قُدِّرَت الإصابات بالحصبة في الولايات المتحدة وحدها قبل عام 1963 بالملايين، منها نصف مليون حالة وفاة سنوياً، بالإضافة إلى الآلاف من المصابين بعاهات نتيجة لتداعيات هذا المرض. استمرّ هذا الداء الوخيم بالتفشّى في البشريّة حتى أتى الفتح العلميّ في عام 1963 وقُلِبت الموازين من خلال اكتشاف تطعيم فعّال للوقاية من داء الحصبة. ـ
أدّى تطعيم الحصبة إلى إنقاذ الملايين من البشر من الإصابة بهذا الوباء الوفاة بسببه. فلو أخذنا على سبيل المثال الفترة بين عام 2000 الى 2017، فقد جنّب التطعيم حوالي 21 مليون إصابة، وذلك فقط خلال تلك الفترة. لذلك، يعدّ لقاح الحصبة من أفضل العلاجات الوقائية المتوفرة في يومنا هذا ومن نتائج برامج التطعيم ضد الحصبة، اعلان القضاء على هذا المرض الفتّاك بالولايات المتحدة في عام 2000. ـ
شكراً للعلماء والباحثين الذين دأبوا على اكتشاف وتطوير هذه العلاجات الوقائية الفعالة، وشكراً للوزارات ومراكز الصحة العامة التي دأبت على تنفيذ برامج التطعيم محليّاً وعالمياً. ـ
بالإضافة إلى خطورته، يعتبر الفيروس المسبب للحصبة من الأسهل انتشارًا مقارنة بغيره من الفيروسات. فلو افترضنا أنّ شخصاً مصاباً قام بالسُّعَال في غرفة ثم غادرها، من الممكن أن يصابَ بالعدوى من يدخل الغرفة خلفه ولو بعد ساعات. وأيضاً، بإمكان المصاب أن ينقل المرض لـ 12 الى 18 شخصا آخر وهذا معدّل ضخم للغاية يسهم في التفشّي السريع للمرض وتحوله إلى وباء. ـ
هل تعدّ الحصبة مرضاً خطيراً؟ نعم، وبلا شك! كان مرض الحصبة القاتل الأول للأطفال في العالم. نعم، أكرّر، القاتل الأول. كان الخاطف الأول لأرواح أبنائنا وبناتنا، وأوشكنا القضاء عليه تماماً. فأنّى له الرجوع؟ كيف سمحنا لهذا القاتل بالعودة؟ كيف فتحنا له أسوار بلداننا، وأبواب بيوتنا ومدارسنا، بل وغرف نوم أطفالنا ؟! ـ
أعلنت منظمة الصحة العالمية أنّ "التردد في التطعيم" من أكبر 10 مهدّدات للصحة العامة عالمياً. لقد تزايدت حالات رفض التطعيم بشكل مخيفٍ ومضطردٍ جداً خلال السنوات القليلة الماضية، يقدّر التزايد بـحوالي 300% من حالات الحصبة حول العالم. لا يقتصر ذلك على الدول الفقيرة التي ليس بوسعها تحمّل تكلفة البرامج الوقائية، بل تشمل دولاً غنية بها نظام صحّي متطوّر مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن، كيف انتشرت الحصبة في مثل هذه الدول المتقدمة على الرغم من انتشار التطعيم؟
تنتشر الحصبة غالبا في المناطق التي ينتشر فيها رفض التطعيم، أو التردّد فيه. حيث يكفي أن يزورها شخصٌ واحدُ مصاب بالمرض حتى يتفشى فيها الوباء كما أسلفنا. فلنأخذ مثالاً للتوضيح. كانت نسبة التطعيم ضد الحصبة لدى الجالية الصومالية في ولاية مينيسوتا الأمريكية تتعدى 90 ٪ وبالتالي لم يكن هناك تواجد للحصبة. هذا ما دفع الكثيرين للهجرة من الصومال لأمريكا بحثاً عن مستقبل صحّي لأولادهم، من ضمنهم سعاد صلاح الأمريكية من أصول صومالية، التي أُصيبت بالحصبة عندما كانت طفلةً تقطن الصومال، وفقدت أختها التي توفِّيَت إثر داء الحصبة. ولكن المأساة حصلت عندما زار هذه الجالية مُروّج أكذوبة ارتباط التطعيم بالتوحد، ويكفيلد، ودَقِّه أجراسَ الخطرِ الكاذبةِ مدّعياً خطورة التطعيم ومحذّراً الناس منه، وفاتحاً الباب بيديه لتفشي الأوبئة. جاء ينشر فيروساته الفكريّة، وللأسف، انساقت خلفه مجموعة من الأهالي ومنعوا حق التطعيم عن أبنائهم، مما تسبب في تدني مستوى التطعيم إلى أقل من 50 ٪ خلال فترة وجيزة. من بين الذين قرّروا عدم تطعيم أبنائهم، سعاد صلاح، متأثرةً بالخطاب الذي ساد لدى الجالية وقتها. لم يستغرق الأمر أشهراً حتى ظهرت الحصبة وتحولت إلى وباء بين الجالية الصومالية، وكان من بين المصابين أبناء سعاد صلاح. اعتقدت سعاد أنّها في حصن منيع بعد هجرتها إلى أمريكا، هي وأطفالها. غير أن انتشار الجهل والمغالطات له مفعول سريع وخطير. تفشَّى فيروس الحصبة بعد فترةٍ قصيرةٍ من استفحال الفيروسات الفكرية التي نشرها ويكفيلد. وقفت الجالية الصومالية بعدها بخطبائها، ونشطائها من بينهم سعاد، للتصدي لهذا الوباء من خلال إبطال الفيروسات الفكرية بسلاح العلم. ونجحوا على الرغم من وجود خسائر جمّة. قصة تحمل في طيّاتها دروساً وعِبَراً عن أهمية تصدِّي العلم لمروّجي الجهل والوهم، حيث أن ذلك قد يكلفنا أرواح أطفالنا وبسرعة أكبر ممّا نتخيّل. ـ
قد يقول البعض هنا، أنّ قرار التطعيم أو عدمه قرارٌ فرديّ بحت. لنتمعن في هذه النقطة الهامة. لو كانت تداعيات عدم التطعيم فرديّة لكانت الإجابة واضحة جلية، ولكن الآثار الجمّة المترتبة على ذلك تتعدّى الفرد لتمسّ الصّحة العامّة. بمعنى آخر، حتى يكون المجتمع محصَّناً ضدَّ مرضٍ ما، يجب أن يتمتّع الأغلبية بالمناعة من خلال التطعيمات. عندها يعتبر المجتمع برمَّتِه محصَّناً، أمّا إذا انخفضت نسبةُ المحصَّنين بسبب رفض البعض للتطعيم فيصبح المجتمع عُرضةً للمرض. بالتالي يصبح التساؤل، ما ذنب الأبرياء في المجتمع حتى يتعرضوا لخطر المرض بسبب قرارٍ شخصي للبعض؟
هذا على الصعيد الفردي. أما إذا كان هذا يخصُّ تطعيمَ الأطفال، فمن أوجب واجبات الوالدين الحفاظ على صحّة وسلامة أولادهم وبالتالي عدم الالتزام بالتطعيم يعد انتهاكا لحماية الأطفال. فما ذنب الأطفال الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة، حتى يتم تعريضهم لهذا المرض الفتاك؟
********
قراراتنا الـ(لا)ـمنطقية
إنه بالفعل لأمرٌ محيّرٌ! كيف لشخصٍ ما أن يقرر عدم تحصين نفسه أو أولاده بالتطعيمات بالرَّغم من وجود دراسات عديدة مقنَّنَة ومُحْكَمة أجريت على الملايين من البشر أثبتت فعاليّة التطعيمات؟! ـ
وأوضح مثال على ذلك هو الاختفاء الكامل لمجموعة من الأوبئة حيث لم نعد نسمع عنها بتاتاً. كيف يرمي البعض منّا بهذه النعمة العظيمة عرض الحائط، بينما يتشبثون بدراسات صغيرة أُجريت من قبل أشخاص مستفيدين مادياً ولديهم مصالح شخصيَّة؟ كيف لشخص ما أن يختار المرض والوباء، بدلاً من الصحة والسلامة؟! ـ
إن التمعن في الجوانب النفسية المتعلقة بالتردد في قرار التطعيم، قد يساعدنا في فهم جوانب من هذه المشكلة وبالتالي بعض الحلول المحتملة. آخذين في عين الاعتبار أنه موضوع معقّد ويحتاج لحلول مركبة. ـ
حيث تتأثر الكثير من قراراتنا بمجموعة من التحيّزات المعرفيّة اللاشعورية والتي تودّي بنا لاتخاذ قرارات غير حياديّة بل وأحياناً خطيرة. على سبيل المثال، يعتمد القرار الذي نتخذه بشكل كبير على المعلومات الحاضرة لدينا وقت اتخاذنا للقرار. فبما أننا لم نعد نسمع عن أمراض مثل الدفتيريا أو الحصبة الألمانية أو شلل الأطفال بسبب فعالية التطعيمات، غابت مخاطر هذه الامراض عن وعينا عند اتخاذ القرار. بينما نستحضر وبسهولة، قصصاً مزعومة نسمع عنها في وسائل التواصل الاجتماعي عن سلبيات التطعيم. فالتطعيم بالنسبة لنا حقيقيّ وملموس، وكذلك القصص عن تداعياته، بينما الامراض المذكورة سابقاً فقد نعتبرها افتراضية بسبب غيابها عن واقعنا. كذلك، نستسهل احيانا عدم اتخاذ أي قرار عند مواجهة قرار صعب لنتفادى تداعيات القرار، وهذا ما يفعله الشخص الذي يتجنب اتخاذ قرار التطعيم. بينما هو قد اتخذ بالفعل قراراً آخر: قرار احتمالية الإصابة بالمرض أو تعريض الأطفال والمجتمع للإصابة بالأمراض. أيضاً، إذا اعتقد شخص بأنّ التطعيمات خطيرة صحيّاً، فإِنّه قد يبحث عن معلومات تُؤكّد معتقده. وما أسهل ذلك، خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي حيث انه من السهل جداً إيجاد قصص تعزز أي قناعة بغض النظر عن مصداقيتها ومهما كانت ركاكتها.
********
التعاطف والتطعيمات
بينما يعتبر التعاطف سمةً إنسانيةً راقية، قد يؤدي بنا التعاطف لاتخاذ قرارات تضرّ بنا أو بأحبابنا. هذه نقطة حساسة يستخدمها مناهضو التطعيمات، حيث يسلطون الضوء على قصة طفل تعرض لانتكاسة بعد التطعيم، مبالغين في التعبير عن المآسي المترتبة وعلى ندم الأب أو الأم وشعورهم بالمسؤولية عن تدهور طفلهم بسبب قرار التطعيم. لا يسع من يقرأ هذه القصص أو من يشاهد دموع الوالدين في مقطع مصور إلا أن يتعاطف تلقائياً مع هذه المشاعر. وعندما تأتي لحظة اتخاذ قرار تطعيم الأولاد، تأتي معها العواطف الجيّاشة والتي قد تدفع نحو منع الأطفال من حقهم في التطعيم. إن الإحصاءات البيانيّة والأبحاث المُحْكَمة، قد تتقزّم أمام قصة حركت العاطفة. متناسين أن قرار عدم التطعيم، ولو كان الأريح عاطفياً، إنما هو بالفعل قرار تعريض الأولاد لأمراض خطيرة قد تكون قاتلة. ـ
********
اليد الخفية
كما تلقى حملات رفض التطعيم أرضاً خصبة عند من تسيطر عليهم عقلية "المُؤَامَرة"، حيث قد يعتقدون أن ثمّة يد خفية تنشر التطعيمات لأهداف خارجية. تكمن خطورة هذه العقلية، أن أصحابها يؤمنون بأنّ لديهم علم ومعرفة أكثر بكثير من الأطباء والعلماء في هذا المجال. بل وينظرون إلى العلماء والمختصّين بأنهم غير متعلمين وتمّ غسيل أدمغتهم وأنهم مستفيدون ماديّاً! بالتالي، يرفض هؤلاء أيّة معلومة رسمية مهما كانت قوّتها وأية أدلّة مهما رسخت حجّتها ويلجؤون في المقابل إلى مصادر بديلةٍ مليئة بالمغالطات والخزعبلات، وأشخاص مشككين في المجتمع. ـ
********
أكذوبة التوحد والتطعيمات
من الأسباب الأخرى انتشار معلومات مغلوطة، أحياناً بترويج مقصود من مناهضي التطعيم. أشهرها، أكذوبة ارتباط التوحد بالتطعيم. هناك دراسات شملت الملايين من الأطفال استنتجت أنه لا علاقة بين التطعيمات والتوحّد. بينما الدّراسة الملفقة التي نشرت هذه النيران القاتلة تمّ سحبها علمياً بسبب التدليس والتلاعب في البيانات. ترجع أسباب اضطراب طيف التوحد إلى عوامل جينية بشكل أساسيّ. تظهر الأعراض بشكل جلي في السنة الثانية من عمر الطفل، وأحياناً يفقد خلالها بعض المهارات اللغوية والاجتماعية، وهذا هو التطور الطبيعي لأعراض اضطراب طيف التوحّد. حينها يبحث الوالدين عن سبب خارجي لتفسير الأعراض التي لحقت بالطفل، فيتذكرون أنهم قد أخذوا الطفل للعيادة من أجل التطعيم، فيرتبط في مخيلتهم كسبب للتوحد. كذلك يستشهد البعض بارتفاع معدلات التوحد، رغم أنه لا يوجد دليل على زيادة حادة في نسبة الإصابة بالتوحد، بل هناك ارتفاع في عدد الحالات المشخصة ويرجع ذلك الى برامج الكشف المبكر، انتشار الوعي، اتساع دائرة التشخيص وتوفر العلاجات مثل التحليل السلوكي المكثّف. باختصار، لا علاقة البتة بين التطعيمات واضطراب طيف التوحد. ـ
********
المعتقدات والتطعيمات
كما تلعب الجوانب الدينية والمعتقدات الأيديولوجية دوراً في دفع البعض لرفض التطعيم. فلنأخذ على سبيل المثال دولة مثل باكستان حيث ان برامج التطعيم أخفقت من الوصول لمئات الآلاف من الأطفال بسبب انتشار مقاطع فيديو لخطباء لهم وزنهم بين الناس، يزعمون أنّ التّطعيمات برامج غربية صليبية ضد المسلمين ويربطونها أحيانا بأمور مضحكة مثل العقم من أجل تحديد نسل المسلمين! هذا السبب لا يرتبط بمعتقدٍ معين، فمثلاً، كان أحد أسباب تفشي الحصبة في نيويورك رفض اليهود الأرثوذوكس المتشددين التطعيم على أساس ديني، وكذلك بين مجموعات الآميش. ـ
********
ما هو الحلّ؟
علينا أخذ موضوع التردد في التطعيمات محمل الجديّة على جميع المستويات، حيث أنه وكما أسلفنا يصنف التردد في التطعيمات كأحد أكبر ١٠ مهدّدات للصحة العامة بحسب منظمة الصحة العالمية. أودت الحصبة بحياة 140,000 شخص خلال السنة الماضية فقط، وللأسف لا تبدو الأرقام هذه السنة أفضل حالاً. كما يعتبر التردد في التطعيمات مشكلة معقّدة، وبعض الحلول التقليدية لم تثبت فعاليتها في رفع معدل التطعيمات، فتحتاج لحلول عديدة معقدة ومركبة. ـ
قد يكون لنشر المعلومات الصحيحة أثراً ايجابياً في تحسين مناعة المجتمع، خاصة في ظلّ انتشار مجموعات مضللة تنشر الجهل بين الناس. على سبيل المثال، مادة فورمالديهايد مثلاً التي تتواجد في بعض التطعيمات ويصفونها بالخطيرة، هي بالفعل موجودة بوفرة في أجسادنا! فكيف لكمية لا تذكر في التطعيمات أن تؤثر فينا. بل إذا أردنا تجنب مادة فورمالديهايد فعلينا قبل الحديث عن التطعيمات أن نتجنب أكل بعض الفواكه اللذيذة والمفيدة مثل الكمثرى! ـ
كمية فورمالديهايد في التطعيم (اليمين) مقارنة بحبة كمثرى (اليسار) ـ
مثل هذه الرسائل الواضحة تبين عدم منطقية هذه الادعاءات. ولكن، من المهم التنبيه إلى أن محاولة تصحيح المعلومات لدى رافضي التطعيمات قد تؤدي الى نتائج عكسية وتعزّز من المفاهيم الخاطئة لديهم، لذا وجب الحذر عند التعامل مع هذه الفئة. كما أن نشر المعلومات الصحيحة ليس في حد ذاته مجدياً. ـ
يعد استخدام القصص فعّالاً، ربما أكثر بكثير من مجرد سرد الأرقام والإحصاءات. كما أوضحنا سالفاً، يعتبر التعاطف سلاحاً ذو حدّين وله دور هام في توجيه القرارات. فاستخدام القصص المؤثّرة عاطفيّاً عن تداعيات عدم التطعيم بمثال واقعيّ قد يكون مجدياً. خاصة تلك القصص التي تركّز بعمق على شخص واحد، فتأثيرها أفضل من الحديث عن التأثير عموماً على المجتمع. السبب يرجع إلى أن قدرتنا كبشر على التعاطف محدودة حيث بإمكاننا التعاطف مع شخص ما بشكل عفوي، بينما نرى التأثير على العشرات أو المئات من الضحايا مجرد رقم. لذلك نرى صدىً واسعاً للأخبار في وسائل الاعلام التي تركز على قصة لها بطل واحد، كطفلة على سبيل المثال تم انقاذها من الموت المحقق، مقارنة بخبر زلزال أدى لقتل العشرات من الأطفال والذي قد نتفاعل معه ببرود عاطفيّ. وهذه على سبيل المثال قصة واقعية من القصص المؤثرة، قصة نشرها الأب النيوزلندي يان ويليامز، بعد أن أوشك ابنه إلياس البالغ من العمر ٧ سنوات، على الوفاة إثر إصابته بمرض التايتانوس. كان ويليامز معارضاً نشطاً للتطعيمات، وبالتالي حرم ابنه إلياس من حق تطعيم التايتانوس الفعال. يسرد الأب بحرقة القصة مستذكراً حين كان ابنه يناديه بصوت عليلٍ خافتٍ والدم يقطر من فمه "أنقذني يا أبي". يقول ويليامز: " كنت ممسكاً بيد طفلي الذي تقوس ظهره، وأوشكت عظامه على التكسر، وأوشك قلبه أن يتوقف عن النبض في أية لحظة". إنها حالة لن يتحمل أي أب أن يسببها لابنه. انتهى المطاف بوضع ابنه تحت غيبوبة وإنعاش اصطناعي حتى تماثل للشفاء رويدا رويدا. أخذت عملية تأهيله قرابة السنة تعلم خلالها المشي وتناول الأكل من جديد. يقول ويليامز: "وقعنا ضحية الخرافات والمؤامرات المنتشرة في الإنترنت" وهو الآن ناشط يدعم التطعيمات. ـ
من المهمّ أيضاً أخذ تدابير لإيقاف انتشار الأفكار الخاطئة، خاصّة في عصر سهولة انتشار المعلومة. كما أشرنا مراراً، يسبق انتشار الأمراض المميتة، انتشار الفيروسات الفكرية. هذا ما دفع كبرى الشركات العالمية الى أخذ إجراءات ضد مروّجي عدم التطعيم. ابتداءً من شركة أمازون والتي سحبت من رفوفها الكتب المروجة لعدم التطعيم. بالإضافة إلى شركات مثل تويتر وانستاغرام ويوتيوب، حيث أغلقت بعض الحسابات والهاشتاقات المروّجة لهذه الأفكار الخطيرة. خاصة أن هناك خطورة كبيرة من هذه المجموعات حيث تم تقدير مجموعات مضادة للتطعيم بحوالي 500 صفحة إلكترونية في تقدير حديث، بالإضافة المئات من الكتب والبرامج التلفزيونية. يجدر الذكر بأنه في دراسة حديثة تم تتبع هذه المواقع الإلكترونية واكتشاف أن الغالبية العظمى منها مدعومة من قبل شركتين من الشركات العملاقة والمستفيدة من نشر هذه الأفكار. مثل ما تبين من قصة الجالية الصومالية في مينيسوتا، فإن فيروس الحصبة يتبع الفيروسات الفكريّة. ما تغيّر اليوم، هو التطور الغير مسبوق لوسائل التواصل والتي بإمكانها نشر الفيروسات الفكرية بسرعة وبشكلٍ عابرٍ للقارّات. هناك أيضاً دعوات لتحميل الأشخاص المروّجين لأفكار تؤثر سلباً على الصحة العامة، مسؤولية، بالإضافة إلى المنصّات التي تسمح لها بالانتشار. ـ
من المهم عند تثقيف الأهالي عن التطعيمات، إيصال رسالة واضحة جلية مفادها: (1) التطعيمات فعّالة وآمنة (2) هناك آثار هامّة مترتبة على عدم التطعيم. هناك أدلة عديدة على أن التحاور المباشر خاصة المبني على الاحترام المتبادل مع المترددين في التطعيمات وسيلة قد تكون فعاله لتقبل التطعيمات. ولاية كيوبيك الكندية بدأت مؤخرا أسلوباً مبتكراً لرفع معدل التطعيم من خلال مقابلات تحفيزية للأمّهات في عنابر الولادة من أجل رفع معدل التطعيم، والنتائج الأولية تدعو للتفاؤل. ـ
إن فرض التطعيم واستخدام العقوبات قد تجدي في رفع مستوى التطعيم. هذا دفع الكثير من الدول مثل ألمانيا مؤخراً إلى فرض التطعيم، حيث انه بِدءً من شهر مارس 2020 لن يتمكن الطفل من دخول المدرسة أو رياض الأطفال من غير إثبات التطعيم. في خطوة إيجابية، حددت المملكة العربية السعودية عدم استكمال التطعيمات كواحد من 14 بند من بنود انتهاك حقوق الأطفال، وبالتالي يستدعي ذلك إبلاغ السلطات المختصة. مثل هذا الإجراءات تعطي رسالة قوية لا مرية فيها للأهمية التي تعطيها الدولة للصحة العامة.
********
عودة إلى ساموا التي أغلقت جميع مرافقها وألزمت السكان بالبقاء في بيوتهم. بعض البيوت ترفرف عليها الاعلام الحمراء، للإشارة إلى وجود شخص لم يتلقى التطعيم. هذه كانت ضمن الجهود الحثيثة التي بذلتها الحكومة خلال الأيام القليلة الماضية لكبح جماح عدوى الحصبة. حيث كانت نسبة التطعيم مقبولة في السابق، بينما تدنت إلى 30 % خلال الأشهر الماضية بسبب نشطاء مروجين لعدم التطعيم. على رأسهم إيدوين تاماسيس، رجل الأعمال الذي لا يحمل أي مؤهلات علمية أو طبية ! ـ
تفشت حالات الحصبة بشكل مخيف وبسرعة كبيرة نظراً لتفشي الأفكار المسمومة التي نشرها تاماسيس و بالتالي انتشار الحصبة، حيث قاربت 5 آلاف إصابة و أودت بحياة 72 شخصاً أغلبهم من الأطفال. بعد أيام قليله من حملات التطعيم المكثفة تم رفع نسبة التطعيم وتجاوزت 90 % وتوقفت حالات الحصبة في الأيام التي سبقت كتابة هذا المقال. كما تم إيداع تاماسيس السجن. ـ
باختصار أثبتت هذه القصة ما كُنا نعرفه: أن مرض الحصبة خطير، ينتشر بسرعة، قد يؤدي للموت، ويعد التطعيم فعالاً جدا في الوقاية من الحصبة وغيرها من الأمراض. علينا أن نقف سوياً وقفة حاسمة في وجه موجات التجهيل الممنهجة، حفاظاً على سلامة أطفالنا والمجتمع من الآفات الفكريّة والمرضيّة، قبل أن تجتاحنا الآفات فنرفع راية حمراء. ـ
د. عمار حميد البنا
2019/12/14
********
For References , Click the PDF above للمراجع، قم بتحميل الملف من خلال الرابط أعلاه