المرأة التي تجاهلها التاريخ
سوخاريڤا ، الطبيبة الرُّوسيّة و التوحد
عند الحديث عن تاريخ اضطراب طيف التَّوَحُّد، لا بُدّ وأن تتم الإشارة إلى الطبيبين ، الأمريكي/النمساوي ليو كانر و الألماني هانس آسبرجر، كونهما من أوائل من وصفوا هذا الاضطراب. ولكن ، يتناسى التاريخ المرأة التي كان لها دور بالغ الأهمية في تاريخ التَّوَحُّد، ألا وهي الطبيبة النفسية الروسية للأطفال و المراهقين "جرونيا سوخاريڤا". ـ
قبل الحديث في دورها الهام جداً، دعونا نُسَلِّط الضَّوء على الظُّرُوف العِلمّية في تلك الحِقْبَة الزَّمَنِيَّة. كانت الدّكتورة سوخاريڤا تُمارس الطّب النّفسي في زمن لم يكن فيه مصطلح التَّوَحُّد دارجاً، و ذلك في عشرينيات القرن الماضي، قبل حوالي عقدين من نشر كانر و آسبرجر أبحاثهما عن التوحُّد. وقتها، كان مصطلح الشخصية الفصامية (الشيزودية أو السكيزويدية) دارجاً. ـ
بَنَت الدكتورة سوخاريڤا أبحاثها استناداً على أعمال الطبيب النفسي الروسي د. إيميت كريتشمر، الذي وصف الشخصية الفِصَامِيَّة وعلاقتها بما كان يعرف وقتها باضطراب الخَرَف المُبَكِّر ، المعروف حالياً باضطراب الفِصَام. ـ
خلال محاولتها دراسة مراحل الطفولة المبكرة للشخصية الفصاميّة، فَتَحتْ العَالِمة الطّبيبة سوخاريڤا الباب لاكتشافات متميزة متعلقة باضطراب طيف التوحد. حيث نشرت الدكتورة في عام ١٩٢٦ ورقة بحثية، غاية في الأهمية، وصفت فيها السمات المُبَكِّرَة للشَّخْصيَّة الفِصَامِيَّة عند ٦ من الأطفال والمراهقين. ربما تكون هذه الورقة البحثِيَّة أوَّلَ شرحٍ تفصيليّ لما يُعْرف حالياً باضطراب طيف التوحد. ـ
لسنا هنا بصدد السرد التفصيلي لهؤلاء الأطفال ، أو بصدد ترجمة مقالها ، و لكن سأشير إلى بعض المعلومات المُهِمَّة التي ذكرتها و المتعلقة باضطراب طيف التوحد. وصفت الدكتورة سوخاريڤا بعض هؤلاء الأطفال كونهم : ـ
لديهم نزعة توحُّدِيّة
لديهم صعوبة في التواصل الإجتماعي مع الآخرين
يتجنبون الإختلاط بأقرانهم
يتميزون بميول نحو النمطية
لديهم صعوبة في الإنتقال من نشاطٍ إلى آخر
صُعُوبة في التكيُّف مع الجديد
تحصيلهم ضعيف رغم ذكائهم
يميلون إلى التفكير التجريدي
عندهم سلوكيَّات قهريَّة و نمطيَّة
لديهم قصور في الإيماءات الإجتماعية
وأشارتْ سوخاريڤا إلى أنَّه على الرغم من الذَّكَاء الإِدْرَاكِي لهؤلاء الأطفال وقُدْراتِهم اللَّفْظِيَّة، إلا أنّ لديهم صُعُوبات في التَّواصُل الإجتماعي و يتجنَّبون التَّوَاصُل مع غيرهم. ليس ذلك فحَسْب، بل وصفت أموراً دقيقةً مثل النمطية في الكلام والميل نحو السَّجع في التَّخَاطُب اللَّفْظِي لهؤلاء الأطفال. كما استبعدت سوخاريڤا أن يكونوا مصابين باضطراب الفصام، حيث أن الفصام يؤدِّي تدريجيَّا إلى تَدَهْور في أدائهم العام. بينما الأطفال الذين وصفتهم في بحثها بدأت أعراضهم في الطفولة المبكرة ، ولم يكن لديهم أي تراجع، بل على العكس، أغْلَبهم تحسّنوا مع الوقت. ـ
بالنسبة لأسباب هذا الاضطراب من وجهة نظرها، فقد رَجَّحَت أَنْ يَكُون السَّبَبْ وُجُودُ خَلَلٍ عِنْدَ الوِلادة. وهذا يَتَماشَى إلى حدٍّ كبيرٍ مع الاكتشافات العِلْميَّة الحاليَّة، حيث تُعْزَى أسباب اضطراب طيف التوحد بشكل رئيسي إلى مسببات جينية أو مضاعفات أثناء الحمل. وذكرت بأن هذه الأعراض التَّوَحُّدِيَّة تَظْهَرُ على هؤلاء الأطفال في سنٍّ مبكرٍ جداً وبشكل قويّ. ـ
وتطرقت إلى معايير تشخيصية لهذا الاضطراب حيث وَصَفَتْ بَعْضَ المَعَايير الرَّئِيسيَّة التي لاحَظَتْها كَسِمَةٍ أساسيَّةٍ و بعض المعايير الثانوية. ـ
قد يربط القارئ هنا بين هذه الطريقة في التصنيف وبين الوصف الحالي لاضطراب طيف التوحد في المعايير التَّشْخيصيَّة الحديثة، حيثُ يستدعِي التَّشْخِيص وُجُودَ أَعْراضٍ رئِيسيَّة وأعراض أخرى ثانوية. الأعراض الرئيسية التي وصفتها سوخاريفا تشمل أربعة أعراض، على رأسها النزعة نحو التوحّد! نعم، لقد وضعت هذا المعيار كأوَّل مِعْيار، ولكنها لم تُسَمِّي الإضطراب بهذا الاسم (التوحُّد) بل وصفته تماشِياً معَ ما كانَ دارِجًا في تلك الحِقْبَة كما أسلفنا كنوعٍ خاصٍ من الشخصية الفصامية التي تبدأ أعراضها منذ الطفولة المبكرة. الأعراض الرئيسية بحسب سوخاريڤا تشمل : النزعة نحو التوحد، التضارب في المشاعر، التفكير بشكل خصوصي و تجريدي و آلي، وكذلك قصور حركي عضلي مثل صعوبة تنظيم الحركة. أما الأعراض الثانوية فتشمل: نزعة نحو الشكّ و الرّيْبَة من الآخرين، انعدام الأمن العاطفي والشعور بالدُّونِيّة، الميل نحو سلوكيات متكررة و قهرية، وغيرها. ـ
لم تكتفي هذه الطبيبة المتميزة بهذا فحسب، بل كان مقالها الثاني والذي تحدَّثَتْ فيه عن أعراض هذا الاضطراب عند الإناث أكثر إبهاراً و تميُّزاً. سوف ينتبه القارئ المُخْتصّ إلى أنّ الفروق بين الذكور والإناث ذوي التوحُّد من المواضيع العلميّة المعقدّة التي لا يزال يتم دراستها. ـ
وصفت الطبيبة فروقاً رئيسيةً بين الذكور والإناث من ضِمْنِها أن الفَتَيات كُنَّ يُعانِينَ بشكلٍ أساسيٍّ من صعوباتٍ عاطفية قد تؤدي إلى سلوكيات قد تبدو غريبة و مبتذلة أمام الآخرين. وفرَّقَت بين تلك السلوكيات وبين الأَعْراض لدى الذكور والتي تتسم بالنزعة نحو التفكير التجريدي والتِّكْرار والنَّمَطِيَّة وعلى رأسها الغرابة في السُّلُوك الاجتماعي و الحدَّة العاطفية و المزاجيَّة. ورجَّحَت أنَّ سببَ ذلك قد يرجع إلى كَوْنِ المرأة وبشكلٍ عام عَاطفيَّة و اجتماعية أكثر من الرَّجُل، وبالتالي تتَّسِمُ الأعراضُ لديهنَّ بصِبْغَةٍ عاطِفيَّة. بينما أكَّدت و بشكل متكرّر أن النَّزْعة نحو التَّوحُّد موجودة بشكل متساوٍ بين الذكور والإناث. كما أشارت في نهاية المقال إلى أن الشخصية الفصامِيَّة أَكْثَرُ شُيُوعاً عِنْدَ الذكور من الإناث ، مستندة إلى إحدى مقولات الطبيب بلوير ، والذي يرى أن الصِّفَات الفِصاميَّة الواضحة مرتبطة بالشَّخْصيَّة الذُّكُوريّة. هذا يذكِّرُنا بالأبحاث التي قام بها ولا يزال يقوم بها بعض الباحثين خاصة في جامعة كامبرج، مثل البروفيسور سايمون كوهين، والذين يتبنى نظرية الدماغ الذكوري البَحْت في تفسيره لاضطراب طيف التوحد. ـ
كان الهدف من هذا المقال أخذكم في جولةٍ سريعةٍ حول كتابات الطبيبة سوخاريڤا و دورها البارز كإحدى أوائل من وصفوا اضطراب طيف التوحد. ولكن يبقى التَّسَاؤُل المُهِم، لِمَ لَمْ نَسْمَع عن سوخاريڤا من قَبْل ؟ ـ
هناك أسبابٌ عديدة و معقدة تعرَّض لها الكُتَّاب و الباحِثِون، من ضمنها الحاجز اللغوي. حيث أَنَّ أَبْحَاثها كانت باللُّغَةِ الرُّوسيَّة، لذلك لم يُكْتب لها الانتِشَار في الدول الأوروبية المتحدثة بالإنجليزية و الفرنسية و الألمانية . أول مقال لها تُْرِجم للإنجليزية عام ١٩٩٦ ، أي بعد ٧٠ سنة من كتابته! الأمر الصَّادِم مؤخَّراً كانَ ظُهُور أَدِلَّة تُشِيرُ إلى أنَّ آسبرجر كان قد اطَّلَعَ على كتاباتها بالألمانية، و استفادَ منها كثيراً، و لكنه لم يُشِرْ إليها إطْلاقَاً! رُبَّمَا للظُّرُوف السِّيَاسيَّة في ذلك الوقت، و كذلكَ دور المرأةِ الذي كان وللأسف يتعرّض للتهميش. تُذَكِّرُني سوخاريڤا بالعالِمَة البريطانية روزاليند فرانكلين و التي وصفت شكل و تركيب الصّبغة الوراثيّة دي.ان.آي، و لكن كريك و واتسون كان لهم النصيب الأوفر من الشهرة. جديرٌ بالذِّكْر أنَّ بريطانيا قد تُخَلِّدُ ذكرى فرانكلين بوضع صورتها على العملة الورقية فئة الـ٥٠ جنيه استرليني تخليداً لدورها. في المقابل، و بالحديث عن آسبرجر، ظهرت مؤخراً مقالات تحقيقيَّة صادمة و مُزْعِجَة لا يَسَعُ المجالُ للحديثِ عنها هنا ، تُظْهر أدلة تورُّطه في إرسال أطفال ذوي صعوبات نمائِيَّة إلى المذابح خلال الفترة النَّازِيَّة ! ـ
ختاماً، سيجد القارئ صورة سوخاريڤا مرفقةً في مقدِّمَة المقال، فلرُبَّمَا تَسْتحِقُّ منَّا أن نُبْرِزَهَا في صدر المحاضرات و المواد التّثْقِيفيّة عن تاريخ اضطراب طيف التوحد. وإلاّ، كان تاريخًا أعرجاً يُبْرَزُ فيه الرِّجال فقط ! ـ
د. عمّار حميد البنا
30/09/2019
For References click below (PDF) المراجع في النسخة المرفقة أدناه